هل تعلم

ساعة “القشلة” البغدادية… يديرها الزمن العراقي ويوقفها

يفخر العراقيون وهم يقلبون تاريخهم الذي يضم ثماني حضارات متلاحقة بأنهم اهتموا بالوقت وضبطه من خلال ابتكار الساعات، وكان البابليون (2100 قبل الميلاد) أول من قسم الوقت إلى ساعات ودقائق وثوان، حتى ظل هذا التقسيم سراً بابلياً خاصاً تفخر به تلك الحضارة الغابرة، كما يفخر العراقيون بالخليفة العباسي هارون الرشيد حتى أطلقوا على بغداد اسم “عاصمة الرشيد”، فهو الذي أهدى صديقه ملك فرنسا شارلمان ساعة عراقية عدت من عجائب الدنيا وقتها، لدرجة أن كسرها الفرنسيون ليعرفوا سرها ظانين أن الجن هو من يديرها بسبب آليتها العجيبة.

قلب بغداد العثمانية

ظل الوقت ورصده سراً يتداوله العراقيون في مجالسهم وكأنه اتكاء على منجزات حضارية سادت ثم اختفت خلال العهود الغابرة جراء الغزوات المتلاحقة، لكنهم يبحثون اليوم عن ساعة واحدة تحاكي “بيغ بن” اللندنية التي أنشئت عام 1859 فلا يجدون سوى ساعة “القشلة” المطلة على نهر دجلة جهة الرصافة منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن، وهي أضخم ساعات بغداد الماثلة حتى اليوم، وقد باتت معلماً من معالم المدينة الأثرية وتحاكي ساعة لندن الشهيرة، أو هكذا أراد صناعها ومنشئوها في منتصف القرن الـ 19، إذ بنيت الساعتان في وقت واحد.

و”القشلة” لفظة تركية تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود العثمانيون، وأقرب لمعنى الحصن أو الثكنة، وهي لصيقة لسراي الحكومة ومقر الولاية العثمانية في بغداد التي حكمت العراق خلال الفترة من 1534 وحتى 1920، مقسمة إياه إلى ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة.

 

 

وكانت “القشلة” أعلى مباني بغداد العثمانية، وعلى رغم أنها اليوم ضاعت بين عمائر بغداد الشاهقة لكنها لا تزال مميزة تشهد على فصل طويل من تاريخ عاصمة الرشيد التي أسقطها التتار عام 1258 للميلاد، وتناهبتها الممالك القوية قروناً.

وتتوسط “القشلة” مبنى المدرسة الموفقية وسط بغداد التاريخية، وشرع في بنائها الوالي محمد نامق باشا عام 1850، أي قبل بناء “بيغ بن” بتسع سنوات، وأكملها الوالي مدحت باشا الملقب بالمصلح، وهي بأربعة أوجه ومشيدة على برج بارتفاع 23 متراً، ومهمتها الأولى إيقاظ الجنود العثمانيين بدقاتها المدوية، وإعلامهم بأوقات التدريب العسكري اليومي.

زمن عراقي جديد

يروي المؤرخون البغداديون أمثال أمين المميز أن دقات “القشلة” كانت حدثاً تاريخياً في بغداد، فعلى وقعها توج الملك فيصل الأول عام 1921 كأول حاكم عربي للدولة العراقية الحديثة، وهناك تفسيرات عدة لأسباب بناء الساعة بهذا الحجم وهذه الضخامة، والمرجح أن السبب هو محاولة محاكاة ساعة “بيغ بن” اللندنية، فحين أرادوا لها أن تضاهي تلك الساعة الأشهر في العالم بنوا لها الأبراج واختاروا لها موقعاً مميزاً وسط ثكنة الجيش العثماني الرئيسة قرب مقر الولاية ومباني سراي الحكومة وأشهر مدرسة وقتها وهي “المدرسة المستنصرية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويجمع كثيرون على أن دقات ساعة “القشلة” كانت بداية لزمن عراقي جديد، إذ استفاق الناس لحالهم وأدركوا أن بلدهم محتل منذ آخر حادثة خراب لعاصمتهم على أيدي الاحتلال المغولي عام 1258.

تلك الساعة التي يتمركز حولها عالم بغداد العثمانية وكأنها قلب حضارتهم الحديثة تعرضت لإهمال طويل وتوقفت عن العمل عقوداً من الزمن، وكان جوفها مليئاً بالسخام واستوطنتها الطيور والعناكب، وفي عام 1998 جرت محاولة إعادتها للخدمة كساعة تدق في وسط بغداد، وتمكن أسطوات عراقيون مهرة من معرفة سر تحرك عقاربها الذاتي طوال الوقت بفعل الريح، ونصبوها من جديد وسمعت دقاتها تدوي في بغداد نهاية ذلك العام.

لكن الفرحة لم تكتمل لتعود إلى التوقف بعد عام 2003 حين نهبت بغداد من جديد وسرقت مبانيها الحكومية، بما في ذلك أجزاء من ساعتها الأشهر “القشلة”، لكن أعيدت إليها الحياة بعد 10 سنوات أثناء قيام مشروع بغداد عاصمة الثقافة عام 2013، لتعود دقاتها تؤنس أوقات بغداد وتشعر ناسها بأن الزمن لا يزال عراقياً يدق إلى ما شاء الله ما دام استقرار البلاد.

فرصة ذهبية ضائعة

تغلب الوائلي، وهو مهندس متخصص في تخطيط المدن، يقول لـ “اندبندنت عربية” إن موقع “القشلة” على ضفة النهر وسط المدينة التاريخية يجعل منه فرص عظيمة للاستثمار، لما يحمله من إمكانات سياحية وترفيهية وثقافية، مضيفاً أن تحفيز وربط هذه الضفة بالفعاليات المحيطة بها سينعش المنطقة بأكملها، بدءاً من ضفة نهر دجلة لتكون متنفساً للمواطنين والسياح، إضافة إلى فتح خط مواصلات سهل من طريق النقل النهري.

 

 

ويتابع الوائلي، “هي منطقة جذب سياحي يمكن استغلالها، لا سيما المنطقة ما بين المدرسة المستنصرية والقصر العباسي، حيث يتوسطها مبنى القشلة وسراي الحكومة ودار الوالي، ويقدم شارع المتنبي محوراً رئيساً يربط هذه المناطق بشارع الرشيد من جهة الشرق، وهي في مجملها مجمع تاريخي حقيقي إذا تم استغلالها بالشكل الأمثل، لكن للأسف لم تستغل بصورة صحيحة لا سياحياً ولا تجارياً ولا حتى ثقافياً”.

ويظل أمثال الوائلي من المعماريين المتنورين في العراق يصرخون كل يوم لإنقاذ مدينتهم، ويشعرون بأن أصواتهم لا تسمع وسط ضجة الهدم التي تجتاح بغداد العتيقة.



#ساعة #القشلة #البغدادية #يديرها #الزمن #العراقي #ويوقفها
مصدر المقال الاصلي من موقع
www.independentarabia.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى