هل تعلم

من «كيجالي» إلى «سيرنجيتي» بذخ الطبيعة وقواسم التاريخ «8 ـ10» – جريدة الوطن

ثامنًا: في مملكة الحيوان.
على مدى أربعة أيام ولعدَّة ساعات في اليوم الواحد، كانت سيارة السفاري التي تقلُّنا، تجوس المحميتين «سيرنجيتي» و»نجورو نجورو» لمشاهدة قطعان الغزلان والنو والزراف وحمار الوحش والفيلة وأشكال لا حصر لها من الحيوان والوحش والطير، ما يعيش منها في البَر أو في الماء… وكانت عيون الهواتف تنتظر إشارة عيون البشر لالتقاط أجمل الصور وأندرها في تلك السهوب والتلال والهضاب، في بيئة تُعدُّ بحقٍّ مملكة الحيوان الخاصة، تحفظ لها وجودها وتكاثرها الطبيعي وحريتها وأسلوب وتقاليد حياتها، على مساحات شاسعة تقدَّر بـ»14,763 كـم2»، في محمية وطنية، تعرف على أنَّها «نظام بيئي يُشكِّل إقليمًا جغرافيًّا في إفريقيا»، وصنفت باعتبارها من «عجائب الدنيا الطبيعية العشرة»، كونها تشهد «أكبر هجرة عبر البَر للثدييات في العالم أجمع» سنويًّا .وتجوب عشرات سيارات السفاري تلك الأراضي البِكر، التي تنقل السيَّاح من جميع أنحاء العالم، والذين يقيمون في مخيَّمات ومنتجعات مفتوحة في المحميَّتين اللتَيْن تُشكِّلان أهمَّ جذب سياحي في دوَل إفريقيا التي تضمُّ أندر وأكثر أنواع الحيوانات على مستوى العالم. إنَّها بحقٍّ تجربة غنية بالمغامرة ومعايشة الطبيعة والبقاء في البيئة التي تقيم فيها مخلوقات الله، في فضاء مقطوع عن العالم لا تصل إليه إشارات الهاتف ولا خدمة «الواي فاي». فيما تُسهم اللقاءات المباشرة والأحاديث الملتقطة على الطريق في التعرُّف على وجود الأسود والفهود والنمور ووحيد القرن، والحيوانات النادرة في مواقع مختلفة تصبح بين عشية وضحاها تجمُّعًا كبيرًا للسيَّاح خصوصًا الأوروبيين، والقليل من الصينيين واليابانيين والهنود. ويكاد لا وجود للعرب والأفارقة في المحميَّات، ولا يسمح لأيِّ راكب بمغادرة السيارة داخل المحميَّة إلا لظرف طارئ، ويحمَّل قائد سيارة السفاري المخالفة، بدفع ما يوازي ٢٠٠ دولار أميركي، ولم يفُتِ الصديقَيْن الرائعَيْن، عبد العزيز المحروقي ووليد المعمري، فرصة هذا الكنز الطبيعي الباذخ، والسلوك الحيواني العجيب واللافت للنظر، الذي يظهر بأشكال مختلفة، فالتقطا بعدستهما أجمل الصور وأندر المشاهد، وبعضها بفضل التقنية العلمية والإبداع الإنساني، صُوِّرت من مواقع بعيدة جدًّا، فيما يعيش الصديقان الآخران حمد اليحيائي وعبدالله المحروقي متعة نسج المشاهد الخيالية، وتصوير حالة رفقاء هذه الرحلة فيما لو استفزَّ هذا الفيل وقطيعه الذي يتحرك في مواجهتنا فصبَّ جام غضبه على سيارتنا، والتحم معه قطيع الأسود المتربص في الناحية الأخرى، بلغة وتعليقات تمزج الجدَّ بالدعابة ونكهة الطرفة بالتخويف، في ساعات تُعدُّ من أجمل وأسعد أوقات العمر التي لا تنسى. وتجري روح المغامرة والتحدِّي في عروق رفيقَيْ هذا التطواف العزيزَيْن، القاضي سعيد التوبي، والدكتور عبد المجيد الدرمكي، اللذَيْن يلحَّان باستمرار على مغادرة صندوق السيارة والانطلاق بحُرِّية في هذا الفضاء الشاسع، والإبحار في عالم الحيوان والالتحام بمخلوقات الله الأخرى بدلًا من المشاهدة عن بُعد… ولولا التحذير المتواصل من قِبل قائد المركبة، لَما انصاعا إلينا وغادراها لاكتشاف المزيد من المشاهد المذهلة. تتنوع الطبيعة في طريقنا من محمية «سرينجيتي» إلى «نجورا نجورا»، بين السهول الخضراء، والغابات الكثيفة التي تحجب أشعة الشمس، والصحاري القاحلة الأشبه بطقس عُمان، من حيث الجبال الجرداء والأودية والأشجار الشبيهة بـ»السمر» و»الغاف»، وقطعان الغزلان وأغنام قبائل «الماساي» تكتسح السهوب باحثة عن المراعي المناسبة لها، وكان من ضِمْن البرنامج المُعدِّ مسبقًا، المرور على إحدى هذه القبائل التي تنتشر في المنطقة بكثافة، وقدَّم لنا زعيمها شرحًا عن تفاصيل حياتهم وخصائص البيئة التي يعيشون فيها، والفنون والتقاليد والأعراف التي تُشكِّل ثقافتهم الموروثة منذ مئات السنين، والمدرسة التي يتلقى فيها أبناؤهم التعليم المعتمد على اللغتين السواحلية والإنجليزية والحساب… وقد أعدَّ أفرادها عرضًا حيًّا للفنون والرقص والحرف التي يتقنونها وتعرف بهم… «أروشا»، المدينة الساحرة، كان لها نصيب وافر في برنامجنا التطوافي إلى مُدن ومناطق الشرق الإفريقي، فهي مدينة تحتضنها الطبيعة، الرئة التي تتخلص بها من ازدحام البشر والشوارع وروائح أدخنة الطعام وفوضى الحياة العارمة التي تعيشها وهموم وضغوطات الفقراء الذين يكدحون ليلًا ونهارًا لتوفير لقمة العيش وما أكثرهم في تنزانيا، وليسوا قلَّة في أروشا بالطبع. تُعدُّ المدينة، واحدة من أجمل المُدن التنزانية؛ لِما تمتلكه من عناصر جذب متعدِّدة، وامتيازها بالتنوُّع الصاخب للطبيعة البِكر، وفتنة وبهاء الحدائق الغنَّاء والزهور النظرة الطرية، والمشاتل التي تنتشر لمسافات طويلة على الأرصفة والأماكن المفتوحة يتضوع الفضاء بروائحها الزكية، وألوانها الساحرة، وأشجارها ذات التصنيفات والأنواع والاستخدامات والثمار العديدة، كلُّها تقدِّم «أروشا» كمدينة تستحقُّ أنْ تأخذ موقعها الرفيع في الخريطة السياحية التنزانية، كما أنَّ الجبال العالية كجبل «ميرو» و»كليمنجارو» والبحيرات الطبيعية والسفاري تجعل منها مقصدًا سياحيًّا بارزًا لمُحبِّي الطبيعة والاستجمام، فلا غرو أن يطلق عليها «عروس تنزانيا وجوهرتها الفريدة وأجمل مُدنها». هذا وتمتلك تنزانيا ومعظم البلدان الإفريقية ثروات سياحية ومائية وزراعية وحيوانية وبَشرية وفيرة، ومواقع جذب غاية في الجِمال والإبداع، ولكنَّ مواردها المالية، للأسف الشديد، غير ملحوظة في التنمية ولا في التخفيف من معاناة الأعداد الكبيرة من الفقراء، والسؤال الذي يطرحه المشهد كلَّما زرنا هذه الدول: أين موارد هذه الثروات من الواقع المزري المعاش؟؟ إنَّه الفساد الآفة الحقيقية والمرض العضال الذي كلَّما استشرى في جسَد النظام السياسي أفقر البلاد والعباد… في سُوق الفنون والثقافة والحِرف بأروشا، التقينا مصادفةً بالمخرج والمُصوِّر الجزائري «محمد اليحياوي»، ابتهج الرجل برؤيتنا، وهبَّ مسرعًا للتعرُّف علينا وتبادل الحديث معنا، عبَّر في كلمات لطيفة عن حبِّه وإعجابه بعُمان والشَّعب العُماني، وتحدَّث عن العلاقات الوطيدة والعميقة التي تربط الشَّعبَيْن العُماني والجزائري وما تحتفظ به النفوس من ودٍّ وتقدير تجاه بعضهما البعض. وأشار إلى محطَّات تاريخية فاصلة كانت فيها مواقف العُمانيين والجزائريين على درجة عالية من الوعي والمسؤولية حول القضايا الوطنية والعربية والإسلامية، هذا فضلًا عن التنسيق المستمرِّ والفَهْم المشترك بين الحكومتين تجاهها. وأعرب عن رغبته الشديدة وتطلُّعه لزيارة سلطنة عُمان، لإعداد فيلم وثائقي عن الآفاق والإمكانات السياحية التي تتمتع بها عُمان، ومُقوِّمات الجذب السياحي. دَعَوْناه لتناول القهوة معنا، فأجاب مبتهجًا مشاركتنا الحديث الودِّي والمزيد من التعارف وتبادل الخبرات والعناوين. محمد اليحياوي يجوب هذه الأيام كافَّة أقاليم تنزانيا، لإعداد فيلم وثائقي غايته تشجيع وتنمية الحركة السياحية بين الجزائر وتنزانيا، في ظلِّ منافسة شرسة بين دول العالم لتعظيم منافع هذا القِطاع الواعد والمستدام، والاستثمار بسخاء وذكاء في أنشطته، وضمان زيادة موارده. أخذنا من «أروشا»، إلى جزيرة القرنفل «زنجبار»، بالطيران التنزاني، حوالي الساعة، ذكَّرنا المطاران بمطارات الخليج في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، فليسا أكثر من خيمتين أو قاعتين ذواتا بناء قديم ومهترئ يتكدَّس فيهما البَشر، ويفصل بينهما مخرج إلى فضاء الطائرات ومدرجات هبوطها، والتي كانت بأنواعها السياحية والتجارية والخاصة، الصغيرة والكبيرة… تُحلِّق وتنزل في مطار «أروشا»، لا يفصلها فاصل عن عدسات الكاميرات التي استغلَّ أصحابها الفرصة لالتقاط صُوَر ومشاهد أصبحت نادرة في عصرنا المتقدِّم.

سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com

#من #كيجالي #إلى #سيرنجيتي #بذخ #الطبيعة #وقواسم #التاريخ #ـ10 #جريدة #الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى