...
الصحة النفسية

”المشكلة في التقبّل المجتمعي”… الصحة النفسية ”ضرب من الجنون” في الثقافة التونسية – رصيف 22

عندما يُراكم الإنسان ما عاشه من أحزان منذ طفولته، ويكتمها في داخله حتى عن أقرب أقربائه، ويظهر أمامهم مبتسماً قوياً، يأتي عليه يوم، عاجلاً أو آجلاً، وينفجر من هول ما حمل وتحمّل بمفرده، ويقرر حينها الاعتراف بضعفه وبحاجته الماسة إلى المساعدة العاجلة وإلى الإصغاء إليه بكل انتباه.

ينطبق هذا التوصيف على حالة الشابة التونسية “مريم” (اسم مستعار)، التي اختارت إخفاء أحزانها عن أسرتها الصغيرة رغبةً منها في عدم إيلامهم وإيذاء مشاعرهم وقررت أن تتأذى نفسياً عوضاً عنهم.

تركت المشكلات الأسرية التي عاشتها مريم (27 عاماً)، ندوباً كبرت معها، وفاقمها ارتباطها الرسمي بشريك حياتها (خطيبها) الذي ظنته في البداية حبل نجاتها من معاناتها، ولكن الأمر تغيّر مع مرور الوقت.

“اتخذتُ قرار مراجعة طبيب نفسي بسبب التراكمات التي عشتها مذ كنت أبلغ من العمر 5 سنوات، وعلى رأسها المشكلات بين والديّ، وخوفي الكبير من طلاقهما، بالرغم من عدم التفاهم بينهما بسبب خيانة أبي وتعرّض أمي للعنف”، توضح لرصيف22.

دخلت مريم في أزمة نفسية حادة بعد علمها ووالدتها بأن أباها متقدّم منذ مدة بقضية طلاق للضرر، وأقدمت حينها على محاولتها الثانية الفاشلة للانتحار.

وقعت مريم في هذه الفترة الحساسة التي تمر بها في حب شخص، لأنها وجدت فيه الحنان الذي فقدته في أسرتها، ولكن مع مرور الوقت وبروز مشكلات عدة بينهما، “وجدتُ نفسي في علاقة غير مفهومة تغيرت وفقدت لهفة البدايات وشعرتُ بتغيره بينما بقيتُ أنا ومشاعري على حالنا”، تقول.

لم تتخذ مريم بمفردها قرار مراجعة طبيب نفسي للعلاج، بل بتشجيع من خطيبها لأنه يرى تضرر وضعها النفسي يوماً تلو الآخر، والذي وصل إلى حد محاولتها الانتحار، تضيف.

لم تخبر في المرة الأولى أي أحد، وذلك خوفاً من أن تشعر أسرتها “بمعاناتها النفسية في ظل المشكلات التي يمرون بها”، ولكن طبيبها طلب منها إعلامهم لأن حالتها النفسية تتطلب راحةً كبيرةً واهتماماً من عائلتها، علماً أن بداية العلاج كانت عبر الأدوية نظراً إلى معاناتها من اكتئاب حاد.

دخلت مريم في أزمة نفسية حادة بعد علمها ووالدتها بأن أباها متقدّم منذ مدة بقضية طلاق للضرر، وأقدمت حينها على محاولتها الثانية الفاشلة للانتحار

ترى مريم بضرورة مراجعة أي شخص ومنذ الطفولة طبيباً نفسياً، وأن يحظى بإحاطة نفسية، وتتأسف لعدم تقبّل المجتمع التونسي لهذه الفكرة وعدّه المريض النفسي “مختلاً عقلياً”.

وتؤكد أنها تعرضت لسخرية بعض أصدقائها من علاجها عند أخصائي نفسي، “ولكن ذلك لم يؤثر فيّ فكانت عندي رغبة في العلاج للتقدم في حياتي ومحبة نفسي”.

وتختم: “استفدتُ كثيراً من علاجي عند طبيب نفسي إذ جعلني أعتاد أن أكون هادئةً عند تعرضي لمواقف صعبة، ولا أتأثر سريعاً كما في السابق، وأنا ما زلت في طور العلاج وسعيدة بما وصلت إليه معه”.

“هي مدللتي وملاكي، ولم أظن أن ذلك الملاك الصغير سيحمل كل هذه الأعباء بمفرده، وأنا أتحمل مسؤوليتي كاملةً في ذلك”، تقول سلوى (اسم مستعار)، لرصيف22.

كبرت “سيرين” (اسم مستعار)، في جو عائلي مشحون بالمشكلات بين الوالديْن صباحاً ومساءً، من ضرب وشتم متبادل بين الأب والأم، وعلاقة هشة وباردة بين الأب وابنته وصلت إلى حد تفضيل ابنتيْه الأخرييْن عليها.

أولى علامات أزماتها النفسية المتواصلة إلى الآن كانت إصابتها بمرض التأتأة، وهي طفلة بعد، ولكن والديْها لم يوليا الأمر اهتماماً في البداية، وتتالت الصدمات والضغوط في حياة الطفلة ثم المراهقة حتى نفّذت محاولة انتحارها الأولى الفاشلة.

هذه الخطوة كانت بمثابة الصدمة لسلوى التي تأكدت حينها من أن ابنتها تمر بمشكلات نفسية حادة، فاتخذت قراراً بعلاجها عند طبيبة نفسية خاصة وتلقت تقبّلاً وموافقةً سريعيْن من طفلتها.

تجاوبت سيرين (17 عاماً)، مع جلسات العلاج عند الطبيبة النفسية ووعدت والدتها بأنها لن تتأثر مجدداً بمشكلاتهم العائلية وبأنها لن تكرر محاولات الانتحار ثم انقطعت عن زيارة الطبيبة برفقة والدتها التي شعرت بتحسن ابنتها.

ولكن تصاعد المشكلات الأسرية زاد من حدة الضغوط النفسية على الابنة المراهقة التي عاودت تنفيذ محاولة انتحار ثانية فاشلة أيضاً، وانقطعت عن الدراسة بالرغم من تميزها فيها وتأثرت علاقتها بأمها وأصبحت قائمةً على عدم الاحترام والجفاء.

ينظر في تونس إلى مواضيع الصحة النفسية على أنها ضرب من “جنون”. ما يترتب عنه معاناة يومية لكثيرين

تؤكد سلوى أنها لا تهتم لآراء الآخرين في شأن ابنتها، وأن همها الوحيد هو استعادة ملاكها الصغير توازنها النفسي، وأنها لن تتخلى عنها بالرغم من عدم موافقة الابنة على معاودة العلاج النفسي، وأنها ستجد سبيلاً يعيد إليها وإلى ابنتها السعادة والراحة النفسية اللتين فقدتاهما.

يعيش الشعب التونسي خلال السنوات العشر الأخيرة تحولات سياسيةً كبيرةً غير مستقرة ألقت بظلالها على أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة التي تعمقت مؤخراً مع ارتفاع نسب البطالة والفقر والهجرة غير النظامية التي تشهد أرقاماً قياسيةً غير مسبوقة في صفوف كافة فئات الشعب.

وتؤكد الأرقام والدراسات الرسمية حجم الاضطرابات النفسية التي يعيشها التونسيون، إذ أحصت منظمة الصحة العالمية في دراسة حول الأمراض النفسية في القارة الإفريقية معاناة 518 ألف تونسي من الاكتئاب، واحتلت تونس بذلك المرتبة الثالثة إفريقياً.

وبحسب المنظمة، فقد بلغت نسبة الإقبال على استعمال الحبوب المهدئة في تونس 15%، فيما تمثل الأمراض النفسية 98% من أسباب الإجازات المرضية الطويلة في قطاع الوظيفة العمومية.

كما صنّفت دراسة لمنظمة البارومتر العربي حول الصحة النفسية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تونس ضمن أكثر الشعوب معاناةً من الاكتئاب بنسبة 40%.

وعدّ مؤشر السعادة لسنة 2021 الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التونسيين من أقل الشعوب سعادةً في العالم واحتلت تونس المرتبة 166 عالمياً في هذا المؤشر.

“إن الصحة النفسية هي مثل الصحة الجسدية، تمر تارةً بمراحل عادية وتكون في صحة جيدة وطوراً بفترات صعود ونزول”، توضح المتخصصة في علم الاجتماع لطيفة التاجوري، لرصيف22.

وتقول إن المجتمع التونسي كان لا يعترف بالأمراض النفسية على غرار المجتمعات الأوروبية التي كانت قديماً تعدّ الأشخاص المصابين بمرض نفسي لعنةً وعقوبةً من عند الإله، فتحتجزهم في دهاليز وتمارس عليهم أشد أنواع العقوبات.

وتضيف أن المجتمعات والطب والبحوث والدراسات تطورت اليوم، وأنه تم اكتشاف أن المرض النفسي هو جملة من الاضطرابات يمكن أن تصيب الإنسان في كافة فتراته العمرية، في الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة، وأنها لا ترتبط بأسباب داخلية بالشخص فحسب وإنما بأخرى خارجية كذلك.

بلغت نسبة الإقبال على استعمال الحبوب المهدئة في تونس 15%، فيما تمثل الأمراض النفسية 98% من أسباب الإجازات المرضية الطويلة في قطاع الوظيفة العمومية

لكن وبتصفح مواقع المؤسسات الرسمية التونسية الإلكترونية المعنية بمجال الصحة النفسية، يُلاحظ اهتمامها بهذا المجال إذ توفر وزارتا الصحة والتعليم العالي للتلاميذ والطلبة والأطفال أخصائيين نفسانيين في عيادات مجانية في 11 محافظةً وفي 10 مراكز أخرى في 10 محافظات مختلفة.

وبالنسبة إلى وزارة المرأة، فقد وفرت رقماً أخضر مجانياً للاستشارات النفسية وطلب التوجيهات بإشراف أخصائيين نفسانيين، فأين تكمن المشكلة؟

يؤكد المتخصص في علم النفس عبد الباسط الفقيه، أن الشهادة المرضية التي يقدّمها طبيب نفسي في تونس تكتسب قيمةً كبيرةً ولا أحد ينكر وقعها وقوتها، “ولكن هل نعتني بالوقاية من الأمراض النفسية ونهتم بالصحة النفسية أم لا؟ هذا هو السؤال المطروح”.

ويقول لرصيف22، إن هناك غياب وعي بأهمية الصحة النفسية في الثقافة التونسية ومن أهم مظاهر هذا الغياب عراك المواطنين في طوابير المخابز ووسائل النقل، “ما يدل على غياب الوقاية وتعلّم كيفية التفاعل والتعامل في أثناء النزاع والضغوط في العلاقات. هناك صراع كبير من حيث الاعتراف بأهمية الصحة النفسية”.

وينتقد بشدة وصم المريض النفسي بالجنون، والتنمر الذي يتعرض له، ويرى أن الحاضنة الاجتماعية التونسية لا تعالج المشكلات وإنما تستمتع بها ويدعو إلى ضرورة مراجعة هذه السلوكيات، فالمسألة ثقافية وعلينا الاعتراف بأن الجهاز النفسي يمرض مثل أي جهاز آخر في الجسد”.

وبرأيه، فإن المشكلة تكمن في عدم اعتراف الناس بالاضطرابات السلوكية، وفي عدم علاجها عند طبيب نفسي، ويتجلى ذلك من خلال أعداد كبيرة لموظفين عموميين يطلبون شهادات إجازات مرضية للراحة من العمل من دون مراجعتهم أطباء نفسيين لمعالجة مشكلاتهم وحلها.

كما يستشهد المتخصص في علم النفس، بارتفاع أعداد المشكلات الزوجية وحالات الطلاق الناجمة عنها وتوتر العلاقات بين زملاء العمل وبين المراهقين وأسرهم وتحول المدرسة إلى فضاء لإثارة التوترات، ويعزو ذلك إلى عدم معالجة كل هذه المشكلات لدى أطباء نفسيين، “وهذا دليل على أن الفهم العميق للالتجاء إلى المختص النفسي يحتاج إلى عمل جبار آخر”.

من جانبها، تقول التاجوري إن تونس تواكب اليوم تقدّم البحوث في مجال الصحة النفسية، “ولكن الاختلاف هو في التقبّل المجتمعي من خلال الوصم الاجتماعي الذي يلاحق كل شخص يزور الطبيب النفسي”.

ومن بعض الممارسات المجتمعية، تذكر تشجيع الناس على مراجعة أطباء عاديين وعدم تشجيعهم في المقابل على متابعة النمو النفسي والسلوكي العادي، “لأنه لم يدخل بالصورة الكافية ضمن ثقافتنا وهناك وصم يلاحق المصابين بأمراض نفسية خاصةً في المجاليْن العائلي والمهني”، تؤكد.

وتتحدث عن وجود “جانب من الخوف المغلوط من الأمراض النفسية فليس بالضرورة أن كلّ إنسان لديه مرض نفسي سيقوم بأعمال عنف وتكون ردود أفعاله عنيفةً”.

وبرأيها، فإن الخطورة تكمن في عدم اعتراف المجتمع بأهمية العلاج النفسي وببداهة مرض النفس مثل مرض بقية أعضاء الجسم.

ولإنقاذ الأفراد من الإصابة بالاكتئاب ومن اللجوء إلى الانتحار، يوضح الفقيه أنه على الأسر الاستعانة بطبيب نفسي صاحب خبرة لمعالجة مشكلات الأفراد النفسية مع انتشار خدمة الأطباء النفسيين اليوم في المستشفيات الجهوية، خاصةً في المدن الكبرى.

وتبدأ العناية بالصحة النفسية وتقبُّل حقيقة وجود أمراض نفسية من الأسرة، لأنها الدائرة التي تتأسس فيها كل العادات كالتأقلم مع حل المشكلات واكتساب آليات لحلها وعليها تعلّم ردود الفعل الأساسية المبنية على الإصغاء وتفهم الآخر وقبول الاختلاف ومبدأ التعاطف الأساسي بين أفرادها وعليها أن تكون طرفاً يستند إليه الضحايا ولا تمارس الضغط عليهم، يؤكد.

وأشار إلى دور المدرسة الأساسي ،”التي يُمارَس فيها اليوم الكثير من الظلم والتنمر”، في صنع ظروف يتمتع فيها أفرادها بالصحة النفسية، وأكد أن المطلوب من هذه المؤسسات الحاضنة حسن التعامل مع ذوي الصعوبات والاضطرابات العادية والاستعانة بذوي الخبرات حتى لا تتحول هذه الاضطرابات إلى أمراض نفسية.

وشدد عبد الباسط الفقيه على أهمية وعي الناس بحقوقهم وبالدفاع عنها وعدم الخوف والسكوت وعلى ضرورة تحييد مصادر الآلام والضغوط والمشكلات وتعلّم الرفض وقول “لا”.

دور الدولة

من جهتها، تؤكد المتخصصة في علم الاجتماع، أنه على الدولة أولاً الاعتراف بوجود أمراض نفسية وبمجال الصحة النفسية “لأننا نحن المختصين نجد اليوم صعوبةً كبيرةً في إثبات الأمراض النفسية في المجال المهني (فضاءات العمل)، حيث أن كل موظف يعاني من أمراض نفسية يجد نفسه يعاني من وصم إداري يعطّل مسيرته المهنية لمجرد أنه تعرّض في فترة ما من حياته لمشكلة نفسية”.

وشددت لطيفة التاجوري على أن إهمال الصحة النفسية للتلاميذ والطلبة كذلك يؤثر على متابعة دراستهم خاصةً في ظل غياب برامج واقعية وخدمات القرب “التي نتمنى أن تتوفر في المدارس وفي حضانات الأطفال بإشراف مختصين في علميْ النفس والاجتماع في مختلف مراحل نمو اليافعين والشباب والمسنّين”.

وتختم: “فالصحة النفسية مهمة منذ وجود الجنين في بطن أمه حتى ولادته، كما أن الرعاية النفسية للحامل واجبة خلال الحمل وبعد الولادة”.



#المشكلة #في #التقبل #المجتمعي #الصحة #النفسية #ضرب #من #الجنون #في #الثقافة #التونسية #رصيف #الصحة النفسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.