هل تعلم

غرائب وعجائب من قلب المغرب ..

عندما يطحن أبرياء بتهمة طحن بريء

منذ ما يربو عن 35 سنة خلت، وأنا أتابع الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعرفها المغرب، حيث تعاقبت الكثير من المحطات التي أفرزت العديد من التفاعلات والتجاذبات والانعكاسات كان لها الأثر العميق في إحداث تحولات عميقة إن على مستوى الدولة أو المجتمع.

وإذا كانت الأحداث المتعاقبة التي تجري هنا وهناك تخضع في أسبابها ومراميها لمنطق العلاقة السببية التي تحدد دائما شكل وحجم الحدث وكذا تداعياته ونتائجه ومدى الانعكاسات التي تطفو على السطح، ودون الدخول في متاهات عرض هذه الأحداث على كثرتها وكذا التحولات التي أحدثتها في جسد الأمة، يهمني في هذه اللحظة التاريخية أن أتعرض لأغرب حدث عاصرته خلال كل هذه الحقبة. إذ وبكل أمانة، لم يسبق لي أن شهدت حدثا تفاعليا غريبا جدا مثل ما وقع يوم الأحد 30 أكتوبر 2016 والمعروف بالتضامن مع بائع السمك الذي لفظ أنفاسه داخل حاوية لجمع النفايات.

ربما سيتبادر إلى ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى أن كاتب هذا المقال حالة نشاز، يغرد خارج السرب وبهدف لتحقيق مآرب خاصة أو حامل لفكر رجعي ينم عن خيانة الضمير الشعبي أو على الأجدر، مسخر من قبل من لا مصلحة له في حجم التضامن ومدى التنديد الذي أبداه جزء كبير من الشعب بعد الحادث المأساوي الذي ذهب ضحيته المرحوم محسن فكري.

لقد جاء هذا المقال لتفريغ شحنة كبيرة من الغبن والإحساس بالظلم والمهانة بعدما اطلعت على البلاغ الرسمي الذي أصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالحسيمة والذي استعرض من خلاله الخطوط العريضة للتحقيق المعمق الذي سهرت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على إنجازه بعد المأساة التي حدثت يوم الجمعة الماضي.

هذا الشعور بالإهانة مصدره لا محالة هو إحالة ثمانية مواطنين منهم مسؤولين ترابيين محليين ومنهم عمال بشركة تدبير النظافة بالمدينة، وذلك بعدما أقدمت النيابة العامة على تكييف الأفعال المنسوبة إليهم لإلصاق تهمة القتل غير العمدي لهم دون مراعاة لذكاء المتابعين للشأن العام والملاحظين الدوليين والمتخصصين في القانون. لا لشيء إلا لإبراز مدى حرص المسؤولين على التطبيق الصارم للقانون ولو كان ذلك ضد موظفين مرموقين من طينة قائد أو مندوب وزارة، حتى يتسنى إسكات حناجر الآلاف من المتظاهرين عبر أرجاء الوطن والذين ما فتئوا يرددون في شعاراتهم مطلب الضرب بيد من حديد على يد كل من اضطلع في “مقتل” المرحوم.

مما يجعل كل عاقل يفهم ودون أي شك أن هذه المتابعات لا تغدو أن تكون مجرد ذر للرماد في العيون من أجل تفادي غضب الشارع. والدليل على ذلك هو خلو بلاغ النيابة العامة من أية تهمة صريحة للأظناء باستثناء “التزوير في محضر رسمي” اعتبارا، كما ادعت بذلك، لكون اللجنة التي أقدمت على إتلاف بضاعة السمك الممنوعة، أنجزت محضر الإتلاف قبل القيام بهذه العملية. والأدهى والأمر هو متابعة المعنيين بتهمة القتل دون أن تكون هناك أية علاقة سببية بين ظروف وشكل تحرير المحضر و”جريمة القتل”. مما يثير الدهشة ويؤكد بما لا يحتاج للشك أن التهم ملفقة لأهداف سياسية وأمنية محضة.

وفي نفس الوقت فإن البلاغ لا يتوقف في سرده للإجراءات التي اتخذها كل واحد من المتابعين قبل حدوث الوفاة، عند أية محطة كانت، اللهم توقيت تحرير المحضر المذكور. مما يجعلنا نتأكد، وخلافا لما راج بقوة في الأوساط الإعلامية وعند أغلب المتظاهرين في الشارع العام، من الطابع القانوني الصرف لكل التدابير التي اتخذها كافة الموظفين العموميين قبل إقدام المرحوم على الصعود طواعية إلى مؤخرة الشاحنة (توقيف العربة المحملة بالسمك، الأمر بإتلاف البضاعة، إحضار شاحنة الأزبال، الإقدام على إتلاف السمك الممنوع داخل حاوية النفايات).

إن هذه المعطيات تثبت وتبرز مرة أخرى عدم توفقنا في اجتياز امتحان دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون، كما تنم عن تسجيلنا لانتكاسة أخرى انضافت إلى الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت ما من مرة باسم تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد الإداري ومعاقبة الجناة. إنها وصمة عار على جبيننا جميعا لا يمكن السكوت عنها مهما كانت العواقب. ترى هل سيتدارك المسؤولون الكبار في غياب دولة المؤسسات هذه المهزلة وتعيد الأمور إلى نصابها ما دام علاج قضية ما ولو كانت من حجم “استقرار البلاد” لا يمكن أن يتم على حساب الأبرياء.

إن غرابة الحدث التي أثرتها في البداية تتجلى بعد كل ما سبق ذكره، في الأحداث التي رافقت أو تلت وفاة المرحوم محسن فكري. حيث إن آلاف المتظاهرين الذين حجوا إلى الساحات العمومية وجالوا الشوارع الفسيحة، وبغض النظر عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تكتوي به فئة عريضة من الشعب والتي تنتظر هذه الفرص للتعبير عن غضبها الشديد من قساوة العيش وتردي الخدمات العمومية والتسلط والفساد، وكذا المواقع الاجتماعية والمنابر الإعلامية التي أججت الوضع إنما تدافعت بالشكل الذي رأيناه نتيجة معطيات أثبتت الوقائع المتسارعة اللاحقة عن عدم موضوعيتها فالقتل العمدي لم يثبت والتجاوزات الإدارية لا وجود لها وتورط جهاز الأمن في هذا الحدث كما سوق له كثيرا لم يسجل على الإطلاق؛ والأدهى من كل ذلك أن الجملة اللعينة “طحن مو” لم يثبت تماما النطق بها في مسرح الحادث إضافة لما روج حول طلب رجل أمن باب الميناء لرشوة مقابل غض الطرف عن البضاعة الممنوعة. إنها يا سادة غرائب هذا البلد الذي يحتاج لا محالة لثورة ثقافية وإصلاحات سياسية عميقة.

#غرائب #وعجائب #من #قلب #المغرب
مصدر المقال الاصلي من موقع
www.hespress.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى